الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **
وأما الاقتضاب فهو الذي أشرنا إليه في صدر هذا النوع وهو: قطع الكلام واستئناف كلام فمن ذلك ما يقرب من التخلص وهو فصل الخطاب والذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان أنه " أما بعد " لأن المتكلم يفتتح كلامه في كل أمر ذي شأن بذكر الله وتحميده فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله " أما بعد " ومن الفصل الذي هو أحسن من الوصل لفظه " هذا " وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره كقوله تعالى: " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار.
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع
وذا الكفل وكل من الأخيار.
هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب.
جنات عدن مفتحة لهم
الأبواب وقد وردت لفظة " هذا " في الشعر إلا أن ورودها فيه قليل بالنسبة إلى الكلام المنثور فمن ذلك قول الشاعر المعروف بالخباز البلدي في قصيدة أولها: العيش غض والزمان غرير وأكاد من فرح السرور إذا بدا ضوء الصباح من الستور أطير وإذا رأيت الجو في فضية للغيم في جنباتها تكسير منقوشة صدر البزاة كأنه فيروزج قد زانه بلور نادت بي اللذات ويحك فانتهز فرص المنى يأيها المغرور مل بي جور السقاة فإنني أهوى سقاة الكأس حين تجور هذا وكم لي بالجنينة سكرة أنا من بقايا شربها مخمور باكرتها وغصونها مغروزة والماء بين مروزها مذعور في ستة: أنا والنديم وقينة والكأس والمزمار والطنبور هذه الأبيات حسنة وخروجها من شدق هذا الرجل الخباز عجيب ولو جاءت في شعر أبي نواس لزانت ديوانه. والاقتضاب الوارد في الشعر كثير لا يحصى والتخلص بالنسبة إليه قطرة من بحر ولا يكاد يوجد التخلص في شعر الشاعر المجيد إلا قليلا بالنسبة إلى المقتضب من شعره. فمن الاقتضاب قول أبي نواس في قصيدته النونية التي أولها: يا كثير النوح في الدمن وهذه القصيدة هي عين شعره والملاحة للعيون وهي تنزل منه منزلة الألف لا منزلة النون إلا أنه لم يكمل حسنها بالتخلص من الغزل إلى المديح بل اقتضبه اقتضابا فبينا هو يصف الخمر ويقول: فاسقني كأسا على عذل كرهت مسموعه أذني من كميت اللون صافية خير ما سلسلت في بدني ما استقرت في فؤاد فتى فدرى ما لوعة الحزن حتى قال: تضحك الدنيا إلى ملك قام بالآثار والسنن سن للناس الندى فندوا فكأن البخل لم يكن فأكثر مدائح أبي نواس مقتضبة هكذا والتخلص غير ممكن في كل الأحوال وهو من مستصعبات علم البيان. ومن هذا الباب الذي نحن بصدد ذكره قول البحتري في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان وذكر لقاءه الأسد وقتله إياه وأولها: وهي من أمهات شعره ومع ذلك لم يوفق فيها للتخلص من الغزل إلى المديح فإنه بينما هو في تغزله وهو يقول: عهدتك إن منيت موعدا جهاما وإن أبرقت أبرقت خلبا وكنت أرى أن الصدود الذي مضى دلال فما إن كان إلا تجنبا فوا أسفا حتام أسأل مانعا وآمن خوافا وأعتب مذنبا حتى قال في أثر ذلك: أقول لركب معتفين تدرعوا على عجل قطعا من الليل غيهبا ردوا نائل الفتح بن خاقان إنه أعم ندى فيكم وأيسر مطلبا فخرج إلى المديح بغير وصلة ولا سبب. وكذلك قوله في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان أيضا وذكر نجاته عند انخساف الجسر به وقد أغرب فيها كل الإغراب وأحسن كل الإحسان وأولها: متى لاح برق أو بدا طلل قفر فبينا هو في غزلها حتى قال: لعمرك ما الدنيا بناقصة الجدى إذا بقي الفتح بن خاقان والقطر
وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
وهذا النوع يسمى البديع أيضا وهو في المعاني ضد التجنيس في الألفاظ لأن التجنيس هو أن يتحد اللفظ مع اختلاف المعنى وهذا هو أن يكون المعنيان ضدين. وقد أجمع أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضده كالسواد والبياض والليل والنهار. وخالفهم في ذلك قدامة بن جعفر الكاتب فقال: المطابقة إيراد لفظين متساويين في البناء والصيغة مختلفين في المعنى. وهذا الذي ذكره هو التجنيس بعينه غير أن الأسماء لا مشاحة فيها إلا إذا كانت مشتقة. ولننظر نحن في ذلك وهو أن نكشف عن أصل المطابقة في وضع اللغة وقد وجدنا الطباق في اللغة من طابق البعير في سيره إذا وضع رجله موضع يده وهذا يؤيد ما ذكره قدامة لأن اليد غير الرجل لا ضدها والموضع الذي يقعان فيه واحد وكذلك المعنيان يكونان مختلفين واللفظ الذي يجمعهما واحد فقدامة سمى هذا النوع من الكلام مطابقا حيث كان الاسم مشتقا مما سمي به وذلك مناسب وواقع في موقعه إلا أنه جعل للتجنيس اسما آخر وهو المطابقة ولا بأس به إلا إن كان مثله بالضدين كالسواد والبياض فإنه يكون قد خالف الأصل الذي أصله بالمثال الذي مثله. وأما غيره من أرباب هذا الصناعة فإنهم سموا هذا الضرب من الكلام مطابقا لغير اشتقاق ولا مناسبة بينه وبين مسماه هذا الظاهر لنا من هذا القول إلا أن يكونوا قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن. ولنرجع إلى ذكر هذا القسم من التأليف وإيضاح حقيقته فنقول: الأليق من حيث المعنى أن يسمى هذا النوع المقابلة لأنه لا يخلو الحال فيه من وجهين: إما أن يقابل الشيء بضده أو يقابل بما ليس ضده وليس لنا وجه ثالث. فأما الأول وهو مقابلة الشيء بضده كالسواد والبياض وما جرى مجراهما فإنه ينقسم قسمين: أحدهما مقابلة في اللفظ والمعنى والآخر مقابلة في المعنى دون اللفظ. أما المقابلة في اللفظ والمعنى كقوله تعالى: " والبكاء والقليل والكثير وكذلك قوله تعالى: " وهذا من أحسن ما يجيء في هذا الباب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير المال عين ساهرة لعين نائمة " ومن الحسن المطبوع الذي ليس بمتكلف قول علي رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه: إن الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيء وأنت رجل إن صدقت سخطت وإن كذبت رضيت فقابل الحق بالباطل والثقيل المريء بالخفيف الوبيء والصدق بالكذب والسخط بالرضا وهذه خمس مقابلات في هذه الكلمات القصار. وكذلك ورد قوله رضي الله عنه: لما قال الخوارج: لا حكم إلا لله تعالى هذه كلمة حق أريد بها باطل.
وقال الحجاج بن يوسف لسعيد بن جبير رضي الله عنه وقد أحضره بين يديه ليقتله فقال له: ما اسمك قال: سعيد بن جبير قال: بل أنت شقي بن كسير وقد كان الحجاج من الفصحاء المعدودين وفي كلامه هذا مطابقة حسنة فإنه نقل الاسمين إلى ضدهما فقال في سعيد: شقي وفي جبير: كسير. ومما وجدته في لغة الفرس أنه لما مات قباذ أحد ملوكهم قال وزيره: حركنا بسكونه. وأول كتاب الفصول لأبقراط في الطب قوله: العمر قصير والصناعة طويلة. وهذا الكتاب على لغة اليونان. ومن كلامي في هذا الباب ما كتبته في صدر مكتوب إلى بعض الإخوان وهو: صدر هذا الكتاب عن قلب مقيم وجسد سائر وصبر مليم وجزع عاذر وخاطر أدهشته لوعة الفراق فليس بخاطر. وكذلك كتبت إلى بعض الإخوان أيضا فقلت: صدر هذا الكتاب عن قلب مأنوس بلقائه وطرف مستوحش لفراقه فهذا مروع بكآبة إظلامه وهذا ممتنع ببهجة إشراقه غير أن لقاء القلوب لقاء عنيت بمثله خواطر الأفكار وتتناجى به من وراء الأستار وذلك أخو الطيف الملم في المنام الذي يموه بلقاء الأرواح على لقاء الأجسام. ومن هذا النوع ما ذكرته في كتاب أصف المسير من دمشق إلى الموصل على طريق المناظر فقلت من جملته: ثم نزلت أرض الخابور فغربت الأرواح وشرقت الجسوم وحصل الإعدام من المسار والإنزال من الهموم وطالبتني النفس بالعود والقدرة مفلسة وأويت إلى ظل الآمال والآمال مشمسة. ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب إلى بعض الإخوان وعرضت فيه بذكر جماعة من أهل الأدب فقلت: وهم مسؤلون ألا ينسوني في نادي فضلهم الذي هو منبع الآمال وملتقط اللآل فوجوه ألفاظه مشرقة بأيدي الأقلام المتسودة وقلوب معانيه مستنبطة بنار الخواطر المتوقدة والواغل إليه يسكر من خمرته التي تنبه العقول من إغفائها ولا يشربها أحد غير أكفائها. وهذه الفصول المذكورة لا خفاء بما تضمنته من محاسن المقابلة. ومما ورد من هذا النوع شعرا قول جرير: وأعور من نبهان أما نهاره فأعمى وأما ليله فبصير وهكذا ورد قول الفرزدق: قبح الإله بني كليب إنهم لا يغدرون ولا يفون بجار يستيقظون إلى نهيق حمارهم وتنام أعينهم عن الأوتار فقابل بين الغدر والوفاء وبين التيقظ والنوم وفي البيت الأول معنى يسأل عنه. وكذلك ورد قول بعضهم فلا الجود يفني المال والجد مقبل ولا البخل يبقي المال والجد مدبر وقد أكثر أبو تمام من هذا في شعره فأحسن في موضع وأساء في موضع فمن إحسانه قوله: وكذلك قال من هذه القصيدة أيضا: شرف على أولى الزمان وإنما خلق المناسب ما يكون جديدا وعلى هذا النهج ورد قوله: إذا كانت النعمى سلوبا من امرئ غدت من خليجي كفه وهي متبع وإن عثرت بيض الليالي وسودها بوحدته ألفيتها وهي مجمع ويوم يظل العز يحفظ وسطه بسمر العوالي والنفوس تضيع مصيف من الهيجا ومن جاحم الوغى ولكنه من وابل الدم مربع ومن هذا الأسلوب قوله أيضا: تقرب الشقة القصوى إذا أخذت سلاحها وهو الإرقال والرمل إذا تظلمت من أرض فصلت بها كانت هي العز إلا أنها ذلل المرضياتك ما أرغمت آنفها والهادياتك وهي الشرد الضلل وعلى هذا النحو ورد قوله: وناضرة الصباحين اسبكرت طلاع المراط والدرع البدي أقلني قد ندمت على الذنوب وبالإقرار عدت من الجحود أنا استهديت عفوك من قريب كما استعفيت سخطك من بعيد فقابل بين الأضداد: من الجحود والإقرار والعفو والسخط والقرب والبعد. وعلى نحو من ذلك ورد قول علي بن جبلة في أبي دلف العجلي وهو: أيم المهير ونكاح الأيم يوماك يوم أبؤس وأنعم وجمع مجد وندى مقسم وكذلك قوله أيضا: هو الأمل المبسوط والأجل الذي يمر على أيامه الدهر أو يحلو ولا تحسن الأيام تفعل فعله وإن كان في تصريفها النقض والفعل فعش واحدا أما الشراء فمسلم مباح وأما الجار فهو حمى بسل ومما جاء من هذا القسم قول البحتري: أحسن الله في ثوبك عن ثغ - ر مضاع أحسنت فيه البلاء كان مستضعفا فعز ومحرو - ما فأجدى ومظلما فأضاء أرضيهم قولا ولا يرضونني فعلا وتلك قضية لا تقصد فأذم منهم ما يذم وربما سامحتهم فحمدت ما لا يحمد وعلى هذا النهج ورد قوله: وتوقعي منك الإساءة جاهدا والعدل أن أتوقع الإحسانا وكما يسرك لين مسي راضيا فكذاك فاخش خشونتي غضبانا وأما أبو الطيب المتنبي فإنه استعمل هذا النوع قليلا في شعره فمن ذلك قوله: ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا كثيرا إذا شدوا قليل إذا عدوا وكذلك قوله: إلى رب مال كلما شنت شمله تجمع في تشتيته للعلا شمل ومما استعذبته من قوله في هذا الباب: كأن سهاد الليل يعشق مقلتي فبينهما في كل هجر لنا وصل ومما جاء من هذا الباب: لما اعتنقنا للوداع وأعربت عبراتنا عنا بدفع ناطق فرقن بين معاجر ومحاجر وجمعن بين بنفسج وشقائق وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالبنفسج والشقائق هو عارض الرجل وخد المرأة لأن من العادة أن يشبه العارض بالبنفسج. وهذا قول غير سائغ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند أول ظهوره فإذا طر وظهرت خضرته في ابتداء سن الشباب شبه بالبنفسج لأنه يكون بين الأخضر والأسود وليس في الشعر ما يدل على أن المودع شابا قد طر عارضه والذي يقتضيه المعنى أن المرأة قامت للوداع فمزقت خمارها ولطمت خدها فجمعت بين أثر اللطم وهو شبيه بالبنفسج وبين لون الخد وهو شبيه الشقائق وفرقت بين خمارها وبين وجهها بالتمزيق ولها وموجدة على الوداع هذا هو معنى البيت لا ما ذهب إليه هذا الرجل. وأما المقابلة في المعنى دون اللفظ في الأضداد فمما جاء منه قول المقنع الكندي من شعراء الحماسة: لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا فقوله " تتابع لي غنى " بمعنى قوله " كثر مالي " فهو إذا مقابلة من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ نحو: قام وقعد وحل وعقد وقل وكثر فإن القيام ضد القعود والحل ضد العقد والقليل ضد الكثير فإذا ترك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلته بلفظ مركب كان ذلك مقابلة من جهة المعنى لا من جهة اللفظ كقول هذا الشاعر " تتابع لي غنى " في معنى كثر مالي وهذه مقابلة معنوية لا لفظية فاعرف ذلك. وأما مقابلة الشيء بما ليس بضده فهي ضربان: أحدهما ألا يكون مثلا والآخر أن يكون مثلا. فالضرب الأول يتفرع إلى فرعين: الأول: ما كان بين المقابل والمقابل نوع مناسبة وتقارب كقول قريط بن أنيف: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا فقابل الظلم بالمغفرة وليس ضدا لها وإنما هو ضد العدل إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها وبين الظلم. وعلى هذا جاء قوله تعالى: " للشدة وإنما ضد الشدة اللين إلا أنه لما كانت الرحمة من مسببات اللين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة. وكذلك ورد قوله تعالى: " من قبل جهة العام والخاص.
الفرع الثاني: ما كان بين المقابل والمقابل به بعد وذاك مما لا يحسن استعماله كقول أم النحيف وهو سعد بن قرط وقد تزوج امرأة كانت نهته عنها فقالت من أبيات تذمها فيها: تربص بها الأيام عل صروفها سترمي بها في جاحم متسعر فكم من كريم قد مناه إلهه بمذمومة الأخلاق واسعة الحر فقولها: " بمذمومة الأخلاق واسعة الحر " من المقابلة البعيدة بل الأولى أن كانت قالت " بضيقة الأخلاق واسعة الحر " حتى تصح المقابلة. وهذا مما يدل على أن العربي غير مهتد إلى استعمال ذلك بصنعته وإنما يجيء منه ما يجيء بطبعه لا بتكلفه وإذا أخطأ فإنه لا يعلم الخطأ ولا يشعر به والدليل على ذلك أنه لو أبدلت لفظة مذمومة بلفظة ضيقة لصح الوزن وحصلت المقابلة وإنما يعذر من يعذر في ترك المقابلة في مثل هذا المقام إذا كان الوزن لا يواتيه. وأما المحدثون من الشعراء فإنهم اعتنوا بذلك خلاف ما كانت العرب عليه لا جرم أنهم أشد ملامة من العرب. فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي: لمن يطلب الدنيا إذا لم يرد بها سرور محب أو مساءة مجرم فإن المقابلة الصحيحة بين المحب والمبغض لا بين المحب والمجرم وليست متوسطة أيضاً حتى يقرب الحال فيها وإنما هي بعيدة فإنه ليس كل من أجرم إليك كان مبغضا لك. ومما يتصل بهذا الضرب ضرب من الكلام يسمى " المواخاة بين المعاني والمواخاة بين المباني" وكان ينبغي أن نعقد له بابا مفردا لكنا لما رأيناه ينظر إلى التقابل من وجه وصلناه به. أما المواخاة بين المعاني فهو: أن يذكر المعنى مع أخيه لا مع الأجنبي مثاله أن تذكر وصفا من الأوصاف وتقرنه بما يقرب منه ويلتئم به فإن ذكرته مع ما يبعد منه كان ذلك قدحا في الصناعة وإن كان جائزا. فمن ذلك قول الكميت: أم هل ظعائن بالعلياء رافعة وإن تكامل فيها الدل والشنب فإن الدال يذكره مع الغنج وما أشبهه والشنب يذكر مع اللعس وما أشبهه وهذا موضع يغلط فيه أرباب النظم والنثر كثيرا وهو مظنة الغلظ لأنه يحتاج إلى ثاقب فكرة وحذق بحيث توضع المعاني مع أخواتها لا مع الأجنبي منها. وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج أنه اجتمع نصيب والكميت وذو الرمة فأنشد الكميت " أم هل ظعائن البيت " فقعد نصيب واحدة فقال له الكميت: ماذا تحصي قال: خطأك فإنك لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب ورأيت أبا نواس يقع في ذلك كثيرا كقوله في وصف الديك: له اعتدال وانتصاب قد وجلده يشبه وشي البرد كأنها الهداب في الفرند محدودب الظهر كريم الجد فإنه ذكر الظهر وقرنه بذكر الجد وهذا لا يناسب هذا لأن الظهر من جملة الخلق والجد من النسب وكان ينبغي أن يذكر مع الظهر ما يقرب منه ويواخيه أيضا. وكذلك أخطأ أبو نواس في قوله: وقد حلفت يمينا مبرورة لا تكذب برب زمزم والحو - ض والصفا والمحصب فإن ذكر الحوض مع زمزم والصفا والمحصب غير مناسب وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان وما جرى مجراهما وأما زمزم والصفا والمحصب فيذكر معها الركن والحطيم وما جرى مجراهما. وعلى هذا الأسلوب ورد قوله أيضا: أحسن من منزل بذي قار منزل حمارة وحمار فالبيت الثاني لا مقارنة بين صدره وعجزه وأين شم الريحان من الأينق بالأكوار وكان ينبغي له أن يقول: شم الريحان أحسن من شم الشيح والقيصوم وركوب الفتيات الرود أحسن من ركوب الأينق بالأكوار وكله هذا لا يتفطن لوضعه في مواضعه في كل الأوقات وقد كان يغلب علي السهو في بعض الأحوال حتى أسلك هذه الطريق في وضع المعاني مع غير أنسابها وأقاربها ثم إني كنت أتأمل ما صنعته بعد حين فأصلح ما سهوت عنه. وأما الواخاة بين المباني فإنه يتعلق بمباني الألفاظ. فمن ذلك قول أبي تمام في وصف الرماح: مثقفات سلبن العرب سمرتها والروم زرقتها والعاشق القضفا وهذا البيت من أبيات أبي تمام الأفراد غير أن فيه نظرا وهو قوله العرب والروم ثم قال العاشق ولو صح أن يقول العشاق لكان أحسن إذ كانت الأوصاف تجري على سنن واحد وكذلك قوله سمرتها وزرقتها ثم قال القضفا وكان ينبغي أن يقول: قضفها أو دقتها. وعلى هذا ورد قول مسلم بن الوليد: نفضت بك الأحلاس نفض إقامة واسترجعت نزاعها الأمصار فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة يثني عليها السهل والأوعار والأحسن أن يقال: السهل والوعر أو السهول والأوعار ليكون البناء اللفظي واحدا: أي أن يكون اللفظان واردين على صيغة الجمع أو الإفراد ولا يكون أحدهما مجموعا والآخر مفردا. وكذلك ورد قول أبي نواس في الخمر: صفراء مجدها مرازبها جلت عن النظراء والمثل فجمع وأفرد في معنى واحد وهو أنه قال: " النظراء " مجموعا ثم قال " المثل " مفردا وكان الأحسن أن يقول: النظير والمثل أو النظراء والأمثال. وعلى ذلك ورد قوله أيضا والإنكار يتوجه فيه أكثر من الأول وهو: ألا يا ابن الذين فنوا فماتوا أما والله ما ماتوا لتبقى ومالك فاعلمن فيها مقام إذا استكملت أجالاً ورزقا وموضع الإنكار ههنا أنه قال: " آجالا ورزقا " وكان ينبغي أن يقول: أرزاقا أو أن يقول: آجلا ورزقا وقد زاده إنكارا أنه جمع بين الأجل فقال " آجالا " والإنسان ليس له إلا أجل واحد ولو قال أجلا وأرزاقا لما عيب لأن الأجل واحد والأرزاق كثيرة لاختلاف ضروبها وأجناسها. وإذا أنصفنا في هذا الموقع وجدنا الناثر مطالبا به دون الناظم لمكان إمكانه من التصرف. وقد كنا أرى هذا الضرب من الكلام واجبا في الاستعمال وأنه لا يحسن المحيد عنه حتى مر بي في القرآن الكريم ما يخالفه كقوله تعالى في سورة النحل: " الضرب الثاني: في مقابلة الشيء مثله وهو يتفرع إلى فرعين أحدهما: مقابلة المفرد بالمفرد الفرع الأول: كقوله تعالى " وهذا الحكم يجري في النظم والنثر من الأسجاع والأبيات الشعرية. فأما إن كان ذلك غير جواب فإنه لا يلتزم فيه هذه المراعاة اللفظية ألا ترى أنه قد قوبلت الكلمة بكلمة هي في معناها وإن لم تكن مساوية لها في اللفظ وهذا يقع في الألفاظ المترادفة ولذا يستعمل ذلك في الموضع الذي ترد فيه الكلمة غير جواب. فما جاء منه قوله تعالى: " الكلمة إلا مثلا لقيل وهو أعلم بما تعملون وكذلك قوله تعالى: " المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض بنفسه. وكذلك جاء قوله تعالى: كنتم تستهزئون ذكره على حد المماثلة والمساواة لقال: أفي الله وآياته ورسوله كنتم تخوضون وتلعبون. فإن قيل: إنك قد احتججت بالقرآن الكريم فيما ذكرته ونرى قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه كقوله تعالى " الجواب عن ذلك أني أقول: أردت أن تنقض علي ما ذكرته فلم تنقضه ولكنك شيدته والذي ذكرته هو دليل لي لا لك ألا ترى أنه لا فرق بين قوله تعالى: " معناها كالأذى والسوء أو ما جرى مجراهما لصح لك ما ذهبت إليه. وقد ذهب بعض المتصدرين في علم البيان أنه إذا ذكرت اللفظة في أول كلام يحتاج إلى تمام وإن لم يكن جوابا كالذي تقدم فينبغي أن تعاد بعينها في آخره ومتى عدل عن ذلك كان معيبا ثم مثل ذلك بقول أبي تمام وقول أبي الطيب المتنبي فقال: إن أبا تمام أخطأ في قوله: بسط الرجاء لنا برغم نوائب كثرت بهن مصارع الآمال فحيث ذكر الرجاء في صدر البيت فكان ينبغي أن يعيد ذكره أيضاً في عجزه أو كان ذكر إني لأعلم واللبيب خبير أن الحياة وإن حرصت غرور فإنه قال: " إني لأعلم واللبيب خبير " وكان ينبغي أن يقول: إني لأعلم واللبيب عليم ليكون ذلك تقابلا صحيحا. وهذا الذي ذكره هذا الرجل ليس بشيء بل المعتمد عليه في هذا الباب أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز استعمالها في المقابلة بينهما والدليل على ذلك ما قدمناه من آيات القرآن الكريم وكفى به دليلا. وهذه الرموز التي هي أسرار الكلام لا يتفطن لاستعمالها إلا أحد رجلين: إما فقيه في علم البيان قد مارسه وإما مشقوق اللسان في الفصاحة قد خلق عارفا بلطائفها مستغنيا عن مطالعة صحائفها وهذا لا يكون إلا عربي الفطرة يقول ما يقوله طبعا على أنه لا يسدد في جميع أقواله ما لم تكن معرفته الفطرية ممزوجة بمعرفته العرفية. الفرع الثاني في مقابلة الجملة بالجملة: اعلم أنه إذا كانت الجملة من الكلام مستقبلة قوبلت بمستقبلة وإن كانت ماضية قوبلة بماضية وربما قوبلت الماضية بالمستقبلة والمستقبلة بالماضية إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى. فمن ذلك قوله تعالى: " فإن هذا تقابل من جهة المعنى ولو كان التقابل من جهة اللفظ لقال: وإن اهتديت فإنما أهتدي لها وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى هو أن النفس كل ما عليها فهو بها أعني أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بسببها ومنها: لأنها الأمارة بالسوء وكل ما هو لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه إياها وهذا حكم عام لكل مكلف وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسند ذلك إلى نفسه إذا دخل تحته مع علو محله وسداد طريقته كان غيره أولى به. ومن هذا الضرب قوله تعالى: " واعلم أن في تقابل المعاني بابا عجيب الأمر يحتاج إلى فضل تأمل وزيادة نظر وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور وبالأعجاز من الأبيات الشعرية. فما جاء من ذلك قوله تعالى في ذم المنافقين: " ألا إنهم هم المفسدن ولكن لا يشعرون الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون الآية الأخرى بيعلمون والآية التي قبلها بيشعرون وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب وما كان فيهم من التحارب والتغاور وفهوكالمحسوس عندهم فلذلك قال فيه " وآيات القرآن جميعها فصلت هكذا كقوله تعالى " الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير بغني حميد لأنه قال " وإجراء الفلك في البحر بهم وتسييرهم في ذلك الهول العظيم وخلقه السماء فوقهم وإمساكه إياهن الوقوع حسن أن يفصل ذلك قوله " واعلم أيها المتأمل لكتابنا هذا أنه قلما توجد هذه الملاءمة والمناسبة في كلام ناظم أو ناثر. ومن الآيات ما يشكل فاصلته فيحتاج إلى فكرة وتأمل كقوله تعالى: " يكن لهم شهداء فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم كذا ويقول إن التوبة مع الرحمة لا مع الحكمة وليس كما يظن بل الفاصلة بتواب حكيم أولى من تواب رحيم لأن الله عز وجل حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده وذلك حكمة منه ففصلت الآية الواردة في آخر الآيات بتواب حكيم فجمع فيها بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة.
ومما جاء في هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي: وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم وقد أوخذ على ذلك وقيل: لو جعل آخر البيت الأول آخرا للبيت الثاني وآخر البيت الثاني آخر للبيت الأول لكان أولى. ولذلك حكاية وهي أنه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم فلما بلغ إلى هذين البيتين قال: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله: كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبإ الزق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس وكان ينبغي لك أن تقول: وقفت وما في الموت شك لواقف ووجهك وضاح وثغرك باسم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة كأنك في جفن الردى وهو نائم فقال المتنبي: إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف تفاصيله وإنما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت " ووجهك وضاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد.
ولسنا نريد بذلك ههنا ما تقتضيه القسمة العقلية كما يذهب إليه المتكلمون فإن ذلك يقتضي أشياء مستحيلة كقولهم: الجواهر لا تخلو: إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمعة وبعضها مفترقة ألا ترى أن هذه القسمة صحيحة من حيث العقل لاستيفاء الأقسام جميعها وإن كان من جملتها ما يستحيل وجوده. وإنما نريد بالتقسيم ههنا ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده من غير أن يترك منها قسم واحد وإذا ذكرت قام كل منها بنفسه ولم يشارك غيره فتارة يكون التقسيم بلفظة " إما " وتارة بلفظة بين كقولنا: بين كذا وكذا وتارة منهم كقولنا: منهم كذا ومنهم كذا وتارة بأن العدد المراد أولاً بالذكر ثم يقسم كقولنا: فانشعب القوم شعبا أربعة فشعبة ذهبت يمينا وشعبة ذهبت شمالا وشعبة وقفت بمكانها وشعبة رجعت إلى ورائها. فمما جاء من هذا القسم قوله تعالى " لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات من هذه الثلاثة فإما عاص ظالم لنفسه وإما مطيع مبادر إلى الخيرات وإما مقتصد بينهما. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى " فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة.
وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون والسابقون بالخيرات. وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى: " فإن قيل: إن استيفاء الأقسام ليس شرطا وترك بعض الأقسام لا يقدح في الكلام وقد ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى " فالجواب عن ذلك أني أقول: هذا لا ينقض على ما ذكرته فإن استيفاء الأقسام يلزم فيما استبهم الإجمال فيه ألا ترى إلى قوله تعالى " فإنه حيث قال " فمنهم " لزم اسيتفاء الأقسام الثلاثة ولو اقتصر على قسمين منها لم يجز وأما هذه الآية التي هي " بالذكر للعلم بأن أصحاب النار لا فوز لهم ولو خص أصحاب النار بالذكر لعلم أيضاً ما لأصحاب الجنة وكذلك كل ما يجري هذا المجرى فإنه إنما ينظر فيه إلى المستبهم وغير المستبهم فاعرفه. وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة يعجبون بقول بعض الأعراب ويزعمون أن ذلك من أصح التقسيمات وهو قولهم: النعم ثلاثة: نعمة في حال كونها ونعمة ترجى مستقبلة ونعمة تأتي غير محتسبة فأبقى الله عليك ما أنت فيه وحقق ظنك فيما ترتجيه وتفضل عليك بما لم تحتسبه. وهذا القول فاسد فإن في أقسام النعم التي قسمها نقصا لا بد منه وزيادة لا حاجة إليها فأما النقض فإغفال النعمة الماضية وأما الزيادة فقوله بعد المستقبلة: ونعمة تأتي غير محتسبة لأن النعمة التي تأتي غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة وذاك أن النعمة المستقبلة تنقس قسمين: أحدهما يرجى حصوله والآخر لا يحتسب فقوله: ونعمة تأتي غير محتسبة يوهم أن هذا القسم غير المستقبل وهو داخل فيه وعلى هذا فكان ينبغي له أن يقول النعم ثلاث: نعمة ماضية ونعمة في حال كونها و نعمة تأتي مستقبلة فأحسن الله آثار النعمة الماضية وأبقى عليك النعمة التي أنت فيها ووفر حظك من النعمة التي تستقبلها ألا تراه لو قال ذلك لكان قد طبق به مفصل الصواب وقد استوفى أبو تمام هذا المعنى في قوله: جمعت لنا فرق الأماني منكم بأبر من روح الحياة وأوصل فصنيعة في يومها وصنيعة قد أحولت وصنيعة لم تحول كالمزن من ماء الرباب فمقبل متنظر ومخيم متهلل ووقف أعرابي على مجلس الحسن البصري رضي الله عنه فقال: رحم الله عبدا أعطى من سعة أو آسى من كفاف أو آثر من قلة فقال الحسن البصري: ما ترك لأحد عذرا. وقد عاب أبو هلال العسكري على جميل قوله: لو كان في قلبي كقدر قلامة حبا وصلتك أو أتتك رسائلي فقال أبو هلال: إن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل. وليس الأمر كما وقع له فإن جميلا إنما أراد بقوله وصلتك أي أتيتك زائرا وقاصدا أو كنت راسلتك مراسلة وبالوصل لا يخرج عن ومن أعجب ما وجدته في هذا الباب ما ذكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي هو قول العباس بن الأحنف: وصالكم هجر وحبكم قلا وعطفكم صد وسلمكم حرب ثم قال الغانمي: هذا والله أصح من تقسيمات إقليدس ويالله العجب أين التقسيم من هذا البيت هذا والله في واد والتقسيم في واد ألا ترى أنه لم يذكر شيئا تحصره القسمة وإنما ذم أحبابه في سوء صنيعهم به فذكر بعض أحواله معهم ولو قال أيضا: ولينكم عنف وقربكم نوى وإعطاؤكم منع وصدقكم كذب لكان هذا جائزا وكذلك لو زاد بيتا آخر لجاز ولو أنه تقسيم لما احتمل زيادة والأولى أن يضاف هذا البيت الذي ذكره الغانمي إلى باب المقابلة فإنه أولى به لأنه قابل الوصل بالهجر والعطف بالصد والسلم بالحرب. ومن فساد التقسيم قول البحتري في قصيدته التي مطلعها: ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا فقال: قف مشوقاً أو مسعداً أو حزيناً أو معيناً أو عاذراً أو عذولاً فإن المشوق يكون حزينا والمسعد يكون معينا وكذلك يكون المسعد عاذرا وكثيرا ما يقع البحتري في مثل ذلك. وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي وهو: فافخر فإن الناس فيك ثلاثة مستعظم أو حاسد أو جاهل فإن المستعظم يكون حاسداً والحاسد يكون مستعظماً. ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها في بعض. ومن هذا الأسلوب ما ورد في أبيات الحماسة وهو: وكنت امرأ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذي قد أتيته بمنزلة بين الخيانة والإثم فإن الخيانة من الإثم وهذا تقسيم فاسد. ومما جاء من ذلك نثرا قول بعضهم في ذكر منهزمين: فمن جريح متضرج بدمائه وهارب لا يلتفت إلى ورائه فإن الجريح قد يكون هاربا والهارب قد يكون جريحا ولو قال: فمن بين قتيل ومأسور وناج لصح له التقسيم أو لو قال: فمن بين قتيل ومأسور لصح له التقسيم أيضاً لعدم الناجي بينهما. غادرتهم أيدي المنية صبحا بالقنا بين ركع وسجود فهم فرقتان بين قتيل قنصت نفسه بحد الحديد أو أسير غداً له السجن لحداً فهو حي في حالة الملحود فرقة للسيوف ينفذ فيها ال - - حكم قصداً وفرقة للقيود ومن فساد التقسيم قول أبي تمام: وموقف بين حكم الذل منقطع صاليه أو بحبال الموت متصل فإنه جعل صالي هذا الموقف إما ذليلا عنه أو هالكا فيه وههنا قسم ثالث وهو ألا يكون ذليلا ولا هالكا بل يكون مقدما فيه ناجيا. وفي هذا نظر على من ادعى فساد تقسيمه فإن أبا تمام قصد الغلو في وصف هذا الموقف فقال: إن الناس فيه أحد رجلين: إما ذليل عن مورده وإما هالك فيه: أي أنه لا ينجو منه أحد يرده وهذا تقسيم صحيح لا فساد فيه.
اعلم أن صحة الترتيب في ذلك أن يذكر في الكلام معان مختلفة فإذا عيد إليها بالذكر لتفسر قدم المقدم وأخر المؤخر وهو الأحسن إلا أنه قد ورد في القرآن الكريم وغيره من الكلام الفصيح ولم يراع فيه تقديم المقدم ولا تأخير المؤخر كقوله تعالى: " وكذلك ورد قوله تعالى " بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم المقدم. والقسمان قد وردا جميعاً في القرآن الكريم: فمما روعي فيه تقديم المقدم وتأخير المؤخر قوله تعالى " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد.
وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير وكذلك قوله تعالى " فلما قدم الليل في الذكر على النهار قدم سبب الليل وهو السكون على سبب النهار وهو التعيش. ومن ذلك ما كتبته في كتاب تعزية وهو فصل منه قلت: ولقد أوحشت منه المعالي كما أوحشت المنازل وآتت المكارم كما آمت الحلائل وعمت لوعة خطبه فما تشتكي ثكلى إلا إلى ثاكل وما أقول فيمن عدمت الأرض منه حياها والمحامد محياها فلم نطق الجماد بلسان أو تصور المعنى لعيان لأعربت تلك من ظمأ صعيدها وبرزت هذه حاسرة حول فقيدها. ومن ذلك ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت: وما زالت أيادي سيدنا متنوعة في زيادة جودها وكتابها فهذه متطولة بترقية وردها وهذه آخذة بسنة أغبابها وأحسن ما في الأولى أنها تأتي متحلية بفواضل الإكثار وفي الثانية أنها تأتي متحلية بفضائل الاختصار فاختصار هذه في فوائد أقلامها كتطويل تلك في عوائد إنعامها وقد أصبحت خواطري مستغرقة بإنشاء القول المبتكر في شكر الفضل المطول وجواب البيان المختصر وما جعل الله لها من سلطان البلاغة ما يستقل بأداء حقوق تنقل على الرقاب ومقابلة بلاغات تثقل على ومما جاء من ذلك شعرا قول إبراهيم بن العباس: لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ويفتر عنها أرضها وسماؤها فمن دونها أن تستباح دماؤنا ومن دوننا أن تستباح دماؤها حمى وقرى فالموت دون مراحها وأيسر خطب يوم حق فناؤها وهذه الأبيات من نادر ما يجيء في هذا الباب معنى وترتيب تفسير. ومما جاء منه أيضاً قول أبي تمام وما هو إلا الوحي أو حد مرهف تميل ظباه أخدعي كل مائل فهذا دواء الداء من كل عالم وهذا دواء الداء من كل جاهل وكذلك قوله أيضا: وكان لهم غيثاً وعلماً فمعدم فيسأله أو باحث فيسائله وهذا من بديع ما يأتي في هذا الباب. ومما ورد منه قول علي بن جبلة: فتى وقف الأيام بالسخط والرضا على بذل عرف أو على حد منصل ومن الحسن في هذا الباب قول أبي نواس: وكذلك ورد قول بعض المتأخرين وهو القاضي الأرجاني: يوم المتيم فيك حول كامل يتعاقب الفضلان فيه إذا أتى ما بين حر جوى وماء مدامع إن حن صاف وإن بكى وجدا شتا ومما أخذ على الفرزدق في هذا الباب قوله: لقد جئت قوما لو لجأت إليهم طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم لألفيت منهم معطيا أو مطاعنا وراءك شزرا بالوشيج المقوم لأنه أصاب في التفسير وأخطأ في الترتيب وذاك أنه أتى بتفسير ما هو أول في البيت الأول ثانياً في البيت الثاني والأولى أن كان أتى بتفسير ذلك مرتبا ففسر ما هو أول في البيت بما هو ثان في البيت الثاني. واعلم أن الناظم لا ينكر عليه مثل هذا ما ينكر على الناثر لأن الناظم يضطره الوزن والقافية إلى ترك الأولى. وأما فساد التفسير فإنه أقبح من فساد ترتيبه وذاك أن يؤتى بكلام ثم يفسر تفسيرا لا يناسبه وهو عيب لا تسامح فيه بحال وذلك كقول بعضهم: فيأيها الحيران في ظلمة الدجى ومن خاف أن يلقاه بغي من العدى وكان يجب لهذا الشاعر أن يقول بإزاء بغي العدا ما يناسبه من النصرة والإعانة أو ما جرى مجراهما ليكون ذلك تفسيرا له كما جعل بإزاء الظلمة الضياء وفسرها به فأما أن جعل بإزاء ما يتخوف منه بحرا من الندى فإن ذلك غير لائق.
|